برلين تعدل بوصلتها باتجاه الشرق

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • برلين تعدل بوصلتها باتجاه الشرق

    أعتقد شخصياً أن نابليون هو من قال إن بإمكانك أن تعرف السياسة الخارجية لأية دولة بالنظر إلى جغرافيتها. وبشكل عام، ما زالت تلك القاعدة تنطبق بشكل جيد. وفي حالة ألمانيا الخاصة بأنجيلا ميركل سيقوم مراقب غير لطيف بتعديل تلك القاعدة قليلاً. وبإمكان أسواق التصدير أن تدَّعي لها مكاناً بجانب الجغرافيا.

    كانت ميركل في واشنطن هذا الأسبوع. وتلقت المستشارة الألمانية تكريماً من باراك أوباما. وكان هناك ترحيب بإطلاق 19 طلقة مدفع، تبعها منحها ميدالية الحرية الرئاسية، وحفل عشاء فخم في البيت الأبيض. ولم يتلق أي زعيم أوروبي آخر مثل هذا الدلال خلال فترة رئاسة أوباما. ولا بد أنهم كانوا حانقين للغاية في قصر الإليزيه الذي يسكنه الرئيس نيكولا ساركوزي.


    جرت العادة أن تقام هذه المناسبات الترحيبية للحلفاء المخلصين. وفي حالة ميركل كانت حرارة الاستقبال إشارة إلى الأمل أكثر من كونها إشارة تقدير. وربما لا يزال أوباما يكن إجلالاً للعلاقة الخاصة مع بريطانيا، لكن ألمانيا هي القوة الأوروبية التي لا يريد أن يخسرها.


    من النادر أن كانت العلاقات بين البيت الأبيض ومقر المستشارية الألمانية ودية في الآونة الأخيرة. وقد صبغها نزاع علني بشأن ليبيا، ومناقشات حول السياسة الاقتصادية، وانقسامات بشأن مستقبل الطاقة النووية في أعقاب الكارثة في مجمع فوكوشيما في اليابان.


    وأصاب الفزع الولايات المتحدة، إلى جانب بريطانيا وفرنسا، حين رفضت ميركل دعم قرار الأمم المتحدة الذي يسمح بالتدخل في ليبيا. واختارت ألمانيا رفقة الصين، والهند، والبرازيل، وروسيا، بالامتناع عن التصويت على قرار مجلس الأمن.


    وحاول أوباما تجاهل المسألة خلال المؤتمر الصحافي الذي عقد في البيت الأبيض. وكان روبرت جيتس، وزير الدفاع الأمريكي، أقل دبلوماسية حين قال على نحو شبه علني ما كان المسؤولون الأمريكيون يتهامسون به سراً. فقد أبلغ مجلس الناتو أن ألمانيا لا تستخدم ثقلها في التحالف العسكري الغربي.


    أما بالنسبة إلى المسائل الاقتصادية، فإن برلين تنحاز إلى جانب بكين وليس إلى جانب واشنطن في الجدل حول كيفية التعامل مع الاختلالات التجارية العالمية. وحسب اعتقاد ميركل، فإن المشكلة هي اقتراض أمريكا وإنفاقها، وليس سياسة سعر الصرف الصينية. وتقول الأمر ذاته تقريباً حول الفوائض التجارية التي تتمتع بها ألمانيا مع شركائها في منطقة اليورو: يجب أن تكون البلدان التي تعاني من عجوزات ألمانية على نحو أكثر. وبطبيعة الحال، يتمثل المأزق في أنه ليس بمقدور الجميع أن يكون لديه فائض.


    وكانت الإدارة الأمريكية غاضبة بسبب معالجة برلين لأزمة ديون منطقة اليورو. وأبقت ألمانيا العرض مستمراً. وآخر شيء يحتاج إليه أوباما قبل الانتخابات الرئاسية عام 2012 هو انهيار مالي عالمي يحدثه تخلف اليونان عن السداد.


    وبالنسبة إلى إغلاق محطات الطاقة النووية، على برلين بالطبع أن تقرر الأمر بمفردها. لكن فزع ميركل لم يجعل الحياة سهلة بالنسبة إلى أولئك الذين يتخذون وجهة نظر مغايرة. ومن الصعب كذلك تثبيت اعتماد ألمانيا على الكهرباء التي تولدها الصناعة النووية في فرنسا.


    هذه النزاعات يمكن أن تتفاقم. وكان الأمريكيون والألمان يتجادلون بشأن المسؤوليات ذات العلاقة بفوائض وعجوزات البلدين منذ 30 عاماً. ومن الصحيح أن للعجز التجاري الأمريكي علاقة بميل الولايات المتحدة إلى الإنفاق، بدلاً من الادخار.


    في أماكن أخرى، تساهم برلين بالمزيد في الحرب في أفغانستان، بدلاً من دعم العمليات في ليبيا. ويعتبر ترددها إزاء عمليات إنقاذ اليورو، والقرار بإغلاق الصناعة النووية مقياساً للمشاكل المحلية التي تواجهها ميركل.


    مع ذلك، تغيرت ديناميكيات العلاقات الألمانية. وكانت الجلبة بين جيرانها بعد الانتشار الأخير لجرثومة ''إي كولاي'' بمثابة قشة في مهب الريح. وكانت السلطات الألمانية مخطئة في محاولة وضع اللوم على المزارعين الإسبان. لكن كان هناك المزيد فيما يتعلق برد الفعل اللاحق – منطق في التعليقات الافتتاحيات للأوروبيين الآخرين يقول إن ألمانيا ''المنافقة'' تحصل على ما تستحقه.


    وساهم هذا المزيد من التمحور الألماني حول الذات في تخفيض الروابط مع الحلفاء القدامى. وعملت صفقتها مع فرنسا في فترة ما بعد الحرب على تزويد محرك التكامل الأوروبي بالطاقة. وخدم حسها الأطلسي الغريزي كثقل مضاد للامتعاض الفرنسي من القوة الأمريكية. والآن يبدو أن برلين تتخلى بهدوء عن المرساتين التوأم: الأوروبية، والأطلسية.


    فبعد عقدين من توحيدها، باتت ألمانيا التي ترأسها المستشارة ميركل أكثر ميلاً للتقرير بمفردها. وتحول ميزان القوة العالمية نحو الشرق، وكذلك فرص قطاع الصناعة التحويلية الألماني الأسطوري. وسرعان ما ستتفوق الصين على فرنسا بصفتها سوق التصدير الأكثر ربحية. ولا يبدو أن الهند، والبرازيل، وروسيا، تتخلف مسافة بعيدة.


    وتعكف برلين على تغيير اتجاه بوصلتها الجيوسياسية وفقاً لذلك. وبناء عليه، اجتمعت في حالة روسيا الجغرافيا والصادرات لتشكلان سياسة خارجية محسوبة تتوافق مع حساسيات موسكو. وعلى الأرجح أن تكون مجرد مصادفة حينما صوتت برلين في موضوع ليبيا مع بلدان ''بريك''، لكن بدا الأمر رمزياً في كافة الأحوال.


    والفكرة القائلة إن السياسة الخارجية الألمانية كانت مدفوعة دوما بالإيثار إنما هي أسطورة. ولعب الشعور بالذنب دوره، وكذلك الأمر السياسة الواقعية. وسمح التكامل الأوروبي لألمانيا بإعادة بناء اقتصادها، وأبقى التحالف مع الولايات المتحدة إمكانية التوحيد حية فعلياً.


    إن ما تركه جيل ميركل خلفه هو الاعتقاد الحدسي بأن المصلحة الوطنية الألمانية مرتبطة بأوروبا بشكل لا يمكن الفكاك منه. ورأينا لمحة من التغيير خلال الشهر الماضي مع ظهور علني نادر للمستشار السابق، هيلموت كول، قال خلاله إن الأزمة في منطقة اليورو مناسبة لتوحيد الصفوف: ''علينا أن نتبع طريقنا مع اليونانيين كذلك، حتى لو كلفنا ذلك شيئاً ما''.


    إن ألمانيا اليوم تفصل بين المصالح الوطنية والأوروبية. أليس ذلك ما يفعله الفرنسيون والبريطانيون؟ ويجري السياق الحالي كما يلي: لماذا يجب على الألمان الذين يتسمون بالحصافة مساعدة اليونانيين المتهورين؟ تتمثل إحدى الإجابات في أن البنوك الألمانية المتهورة لديها الكثير لتخسره، مقارنة بمعظم البنوك الأخرى، والأمر الأكثر خطورة هو إذا قررت برلين التصرف كقوة ''عادية''، فسوف تتجزأ أوروبا. وألمانيا ببساطة أكبر ـ وفي مكان أكثر استراتيجية (بحسب جغرافية نابليون) ـ من أن تمضي بمفردها.


    ويقول بعض أصدقائي الألمان إن الغرباء غير معتادين على قيام ألمانيا بصياغة مصلحة وطنية واضحة، وإن الابتعاد عن الحلفاء القدامى يمثل انعكاساً للضعف السياسي لميركل على نحو أكثر من مجرد تغيير استراتيجي محسوب. وربما أن الأمر كذلك، والوصف الذي يطلقه حلفاؤها عليها هو القوة الأنانية.
يعمل...
X