العبرة التي استفادها معظم الناس هي أنهم دائما على حق

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • العبرة التي استفادها معظم الناس هي أنهم دائما على حق

    في الأسبوع الماضي اجتمع عدد من الاقتصاديين البارزين في بريتون وودز في ولاية نيو هامبشير، لمراجعة الاستجابات للأزمة المالية في مؤتمر نظمه معهد التفكير الاقتصادي الحديث، وهو مجموعة أسسها رجل المال جورح سوروس. هذه المناسبة دفعتني إلى التفكير في ظاهرة ''التأكيد المتحيز''، أي الميل الموجود لدى الناس إلى العثور على دليل يدعم ما يؤمن به الشخص أصلاً.

    بعد مرور ثلاث سنوات على الأزمة، ينظر أعداء الرأسمالية الحديثة إلى الوراء ويتصورون وجود حالات إخفاق فظيعة في السوق، وهي حالات استهجنوها دائما. ويرى الرئيس نيكولا ساركوزي والمستشارة أنجيلا ميركل جوانب نقص جديدة في الهيمنة الاقتصادية الأنجلو ـــ أمريكية، وهي هيمنة كانا يشعران دائماً بالنفور منها. وهناك آخرون على اليمين يشعرون بالاستياء الشديد من أخطاء الأجهزة التنظيمية العاجزة، والسياسة النقدية المتراخية، والاستجابات الرديئة في السياسة الاقتصادية.


    سيقول لك الناس إن الانهيار يتحدى الآراء السائدة، لكن هذا يبدو على أنه توصية للآخرين، وليس بياناً على المستوى الشخصي. وسيقولون لك إن الناس اتعظوا بالعبر، لكن العبرة الوحيدة التي اتعظ بها معظم الناس هي أنهم كانوا على حق طيلة الوقت.


    هذا التحيز يتلقى تعزيزاً تنظيمياً كذلك. فهناك تنافس قوي في عالم السياسة وحياة الأعمال لمساندة آراء القائد العظيم، سواء كان رئيس صندوق النقد الدولي، أو رئيس أحد البنوك الكبرى. كذلك التطورات في وسائل الإعلام تجعل من السهل تماماً العثور في الوقت الحاضر على المعلومات من مصادر تعكس فقط الآراء الحالية التي يؤمن بها الشخص. وأوضح مثال على ذلك شبكة فوكس نيوز، أو عالم المدونات على الإنترنت.


    في علم الاقتصاد، ينبغي على العالَم الأكاديمي أن يكون موطن الخطاب التعددي، لكن انتشار المجلات الأكاديمية المُحَكَّمة يعمل على تقويض ذلك. أما أساتذة علم الاقتصاد في الجامعات، من النوع الذي يجتمع في بريتون وودز، فهم واقعون الآن تحت ضغط لا يرحم للانتظام في أنموذج إرشادي قائم وضيق. وعلى نحو غير مفهوم، معظم مساندي هذا الأنموذج الإرشادي يشعرون أن الأزمة أكدت صحة هذا الأنموذج.


    جميع هذه العوامل لعبت دوراً في أصول الأزمة. وضمن المؤسسات المالية لم يكن هناك حافز لتحدي الممارسات التي كانت تبدو مربحة. ولم تجد الدول أسباباً تذكر للتساؤل عن صحة هذه النشاطات نفسها، وهو ما ساهم كذلك بصورة ضخمة في الإيرادات الضريبية. قالت شبكة سي إن بي سي cnbc لكل الناس إنهم يصبحون أغنى من ذي قبل، وطمأنت نظريةُ التمويل الأكاديمية الناسَ أن كل ما يحدث هو أفضل ما يمكن في أفضل العوالم الممكنة.


    لكن إذا تلقت هذه الثقة بالنفس ضربة قوية في 2007/2008، فإن أثرها لم يدُم طويلاً. في ذلك الحين كان يبدو على ألان جرينسبان أنه يتراجع إلى حد ما عن مواقفه، حين أخبر الكونجرس في عام 2009 أنه يشك الآن في نماذج السلوك العقلاني التي اعتمد عليها لفترة طويلة. لكن مقالاً كتبه في الفترة الأخيرة في ''فاينانشيال تايمز''، ينتقد فيه قانون دود ـــ فرانك، يشير إلى أنه استعاد الآن رباطة جأشه. مما لا شك فيه أن جرينسبان سيكون من المشاهدين المتحمسين لفيلم ''أطلس غير المكترث''، المقتبس عن رواية من تأليف آين راند، الراعية الفكرية لجرينسبان، والذي بدأ عرضه في الولايات المتحدة هذا الأسبوع. كثير من التحرريين سيذهبون لمشاهدة الفلم والهتاف له، وقليل من أهل اليسار سيذهبون للهتاف ضد الفيلم. لكن مرة أخرى لن تتغير طريقة تفكير أي شخص.


    استطاع جوردون براون، رئيس الوزراء البريطاني السابق، بالفعل أن يصيب الحضور بالذهول في بريتون وودز عندما بدا أنه يعترف بارتكابه خطأً حين لم يدرك مدى الاعتماد المتبادل في النظام المالي العالمي. ربما يكون من سوء التصرف أن ننتقد رجلاً يشعر الآن بارتياح كبير لأن العبء الرهيب للمنصب الرسمي قد أزيح عن كاهله. لكن اعترافه لم يكن إلا مقدمة للتذكرة بأن الاعتماد المتبادل الذي من هذا القبيل إنما يعزز الحاجة إلى قدر أكبر بكثير من ذي قبل من التنظيم لأعمال المؤسسات المالية العالمية، وهو ما كان ينادي به دائماً.


    إن دعوة براون ستلقى قبولاً حسناً في الاجتماعات السنوية المقبلة لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وهو الأمر الذي لا شك أنه كان هدف براون. إذا ترشح رئيس صندوق النقد، دومنيك شتراوس كان، لرئاسة الجمهورية الفرنسية سيكون هناك منصب شاغر سيشغله أحد رجال السياسة الأوروبيين. وجرت العادة في هذه المؤسسات ''الخاصة'' العالمية أن تستنتج أن الأزمة المالية تتطلب تعزيز المؤسسات التي تستضيفها.


    بالمثل اكتشف الاتحاد الأوروبي أن الأزمة تتطلب تكاثُر مؤسساته وتعزيز صلاحياتها. إن لجان بازل التي أمضت عقدين من الزمن وهي تصمم قواعد معقدة بخصوص الكفاية الرأسمالية للبنوك، وهي قواعد تبين أنها عديمة الجدوى تماماً قبل الأزمة وأنها مدمِّرة بعد الأزمة، عملت بسرعة على الحض على التوصل إلى مجموعة من ضوابط الكفاية الرأسمالية التي هي أكثر شمولية وعمقاً حتى من ذي قبل؛ وهكذا دواليك.


    أغلب الظن أنه كان من الصعب على البنوك أن تجادل بأن الأزمة أثبتت مدى الصواب الذي كانت عليه. لكن كما تبين فيما بعد لم تكن مهمة البنوك مستحيلة. في هذا المقام نجد أن وجهة نظرها التصحيحية تنقل المسؤولية بصورة حازمة لتقع على عاتق الحكومات، وحتى على عاتق الجمهور، الذي كان مذنباً بحرمان البنوك من الأموال التي لم تكن تريد إقراضها قط. سمعت أحد التنفيذيين يقول: ''كنا فقط مجموعة من النادلين لخدمة الطاولة''. ومن الواضح أنه كان جاهلاً بمقدار الرواتب التي يتلقاها النادلون، أو جاهلاً بفكرة أن معظم النادلين لا يتمتعون بحق تحديد مبالغ ''البقشيش'' التي يحصلون عليها.


    ليس كل شخص يعاني من ''التأكيد المتحيز''. إذا تخليت عن الذهاب لمشاهدة فيلم ''أطلس غير المكترث''، فإن السبب في ذلك هو أن حبكة الفيلم سخيفة، والحوار مرصع بالمحسنات البديعية، وليس بسبب رسالة الفيلم. وأنا أؤمن كذلك، استناداً إلى وجهة نظر مجردة قائمة على الأدلة، بأن الأزمة تثبت أن من الأفضل إدخال قوانين تنظيمية للصناعة البنكية أكثر صرامة من ذي قبل، بدلاً من الإشراف على سلوك الصناعة، وهي وجهة نظر أشترِك فيها دائماً مع السير جون فيكرز. لكنني أسأت تفسير بعض عناصر الأزمة، إذ كنت أعتقد أن فقاعة التوريق المالي من شأنها أن تخلق فوضى عارمة في قطاع صناديق التحوط، في حين أن الذي حدث هو أن الأزمة أحدثت فوضى عارمة في البنوك الكبرى. لكن النتيجة تعطينا مع ذلك مساندة قوية لفكرة أؤمن بها منذ فترة طويلة، مفادها أن أفضل جهة لتقديم رأس مال المَخاطر هي المؤسسات الصغيرة التي على اتصال مباشر بالمستثمرين، وليس البنوك التي نأتمنها على مدخراتنا. أليس من الغريب أنه حتى أخطاء الشخص تؤكد قوة أفكاره؟
يعمل...
X