دروس يونانية قديمة في إصلاح البنوك

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • دروس يونانية قديمة في إصلاح البنوك

    كما كان متوقعا، قدمت ''اللجنة المستقلة'' في المملكة المتحدة تحليلا شاملا لعيوب النظام المصرفي، وقدمت كذلك اقتراحات لإصلاحه. وهي تغوص مباشرة في النقاش القائم، لكنها لا تناقش غرض النشاط المصرفي بأية درجة كانت من العمق.

    وبالعودة إلى السجلات التاريخية لنشأة البنوك نجد أنها تختلف بدرجة كبيرة. بعضها يشير إلى أنها بدأت في مصر القديمة، لكن وجهة نظر أخرى تقول: إن ''النشاط المصرفي الحديث'' بدأ في مدينة جنوة الإيطالية في القرن الثاني عشر. ووجدتُ أن الأكثر إثارة للاهتمام هو ما أورده كتاب حرره روبن وليامز عام 1997 بعنوان Money a History. وهو كتاب تم تصميمه ليكون ضمن مجموعة المتحف البريطاني لما أنتجته الإنسانية في مجال النقود، وفيه عدد قليل جدا من المحاور المبدئية التي تستحق أن تتم دراستها بجدية. ويعود أول ذكر للمصرفيين فيه إلى أثينا في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد. وكان أولئك المصرفيون نسخة مطورة من متداولي النقود الذين كانوا يستبدلون العملات الأجنبية بعملة أثينا وهم جالسون على مقاعد في الأجورا Agora - السوق. وسرعان ما أضافوا خدمة جديدة تمثلت في صناديق آمنة لحفظ الودائع. وبدأوا في ذلك الوقت إقراض الأموال بفائدة نمطية تبلغ 12 في المائة. والأكثر شهرة من بين أولئك الأوائل مصرفي يدعى باسيون Passion، وهو عبد سابق مات عام 370 قبل الميلاد، تاركا خلفه إرثا ماليا هائلا. ومع ذلك ''كاد يتعرض إلى الدمار في أوائل حياته العملية، حين تمت مقاضاته من جانب عميل ساخط''.

    التطور الذي حدث في النشاط المصرفي لاحقا يمكن تقسيمه من حيث المنهجية إلى المراحل التالية: أولا، اكتشف المصرفيون أن بإمكانهم أن يقتطعوا جزءا مما لديهم من ودائع ليقدموه في صورة قروض آمنة، دون الخوف من أن يطلب كل مودعيهم سحب أموالهم في وقت واحد. ثانيا، من المفترض أنهم بدأوا بعد ذلك بإقراض عملات فعلية، ألحقوها بعد ذلك بتعهدات ورقية، على الرغم من أن التمييز بين الأمرين لم يكن واضحا في السجلات التي رأيتها. وأخيرا، اكتشفوا في النهاية أن بإمكانهم إقراض كميات من الأموال تفوق ما لديهم من ودائع. وكان بالإمكان ممارسة النشاط المصرفي الجزئي الاحتياطي، كما كان يطلق عليه، إذا انخرط معظم البنوك في هذه الممارسة معا، ولذلك لم يعد يهم ما إذا كانت الأموال التي ''ولدها'' أحد البنوك مودعة لدى بنك آخر.

    بعد فترة طويلة من ذلك ظهر مسار إضافي تطور بموجبه النشاط المصرفي، حين كان عدد من التجار الأغنياء يتحدون معا لإقراض الأموال لملك محتاج، كما حدث حين اقترض وليم الثالث الأموال لتمويل حروبه الفرنسية، مثلا. وكانوا يُمنحون مقابل ذلك مزايا متعددة، بما في ذلك حق إصدار أوراق نقدية. وكانت لدى هذه البنوك المبكرة ميزة تخفيف الارتباط بين عرض النقد وكمية المعادن الثمينة في بلد ما، ما سهل نمو الإنتاج والتجارة. غير أنها كانت تعاني أمرا سلبيا يتمثل في كونها عرضة لفقدان الثقة.

    لم تكن هناك قفزة كبيرة من ذلك التاريخ إلى الوظائف الرئيسة الحديثة للبنوك. ففي المقام الأول، وقبل كل شيء، كانت البنوك في ذلك الوقت مؤسسات لتقديم تسهيلات لأولئك الذين لا يريدون الاحتفاظ بأموالهم تحت مراتب أسرتهم. والأمر الثاني هو أنها موجودة لتقديم الائتمان إلى الأفراد والأنشطة التجارية. وفي العادة كان بإمكان الشركات الكبرى الحصول على الأموال اللازمة لتمويل توسعها من خلال إصدارات الأسهم أو السندات. ولم يكن كثير من الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم يستطيع ذلك، بل حتى الشركات الكبرى ربما تحتاج إلى قروض تجسيرية. أما جميع الوظائف الأخرى، فهي إضافات لذلك.

    يجب عدم أخذ الوظيفة الأولى أمرا مسلّما به. فقد لحق الدمار ببطلة إحدى روايات الكاتبة جاسكل، بسبب انهيار قيمة ودائعها المصرفية. والعلاج البسيط هنا هو التأمين الإلزامي لودائع البنوك. وكان الارتباك، أو عدم اليقين بخصوص هذه المسألة هو الذي أدى إلى أحداث مثل الوقوف في طوابير لسحب الأرصدة من نورثرن روك. لكن في نهاية الأمر، على الحكومات المسؤولة عن الأموال الورقية أن تكون مستعدة لضمان، إن لم يكن قيمة الأموال الفعلية، فعلى الأقل الكميات التي يحتفظ بها الناس - نقطة آمل أن تكون قد اتضحت.

    أما ضمان استمرار تقديم الائتمان، فهو أمر أكثر صعوبة. وقد تناولت الهيئة المستقلة للنشاط المصرفي قائمة قياسية من الاقتراحات لجعل النظام المصرفي أقل عرضة لأزمات الثقة. وتتضمن هذه المقترحات متطلبات رأسمال أعلى، وتنظيما أفضل، وفرض مزيد من المنافسة، وأهم من كل شيء فصل نشاط التجزئة المصرفية عن النشاطات المالية الأكثر مغامرة. وتمنيت لو أن الهيئة أصرت على فصل المؤسسات، وليس فقط إقامة جدران حماية من النيران داخلها.

    ويفترض أن كل هذه الأفكار ستساعد، لكن ما مدى ثقة الناس بأن تفعيلها سيمنع حدوث أزمات مالية مستقبلية يمكن أن تأتي من اتجاهات جديدة مثل مشاكل الديون السيادية، بدلا من أسعار المنازل الخاصة بذوي الملاءة الضعيفة في الولايات المتحدة؟ مع ذلك يظل من الأمور السخيفة أن الاقتصادات المتقدمة، التي تعمل بصورة جيدة لولا هذا الأمر، تجد نفسها أمام حالات هبوط سريع بسبب انهيار مفاجئ في أنظمة الأموال الورقية. وأقترح في الواقع، على نحو مؤقت، إنشاء بنوك دولة يمكن أن تتحرك سريعا نحو اتخاذ إجراءات للحؤول دون حدوث تهديدات لنظام الائتمان. والوضع المثالي هو أن تكون لدى هذه البنوك محافظ استثمارية متواضعة للغاية يتم العمل على توسيعها مؤقتا حين يكون هناك تهديد بسقوط مفاجئ.

    نعلم أن السياسات لن تكون مثالية. فقد أنشأ موسوليني الشركة القابضة IRI لأغراض مشابهة خلال الكساد العظيم في فترة ما بين الحربين. لكنها كانت لا تزال قوية خلال عقود ما بعد الحرب، كما أن التخلص من الأصول كان بطيئا بصورة تسبب الجنون. وكما هو الحال بخصوص كثير من قضايا السياسات، فإنها مسألة موازنة بين المخاطر.



يعمل...
X