الديمقراطية تخطئ .. لكن الطغيان مهلك

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الديمقراطية تخطئ .. لكن الطغيان مهلك

    رفعت سلطات السلامة النووية في اليابان مستوى الإنذار في معمل فوكوشيما في الأسبوع الماضي إلى المستوى الأقصى، وهو المستوى السابع. وهذا يعني أن السلطات تعتبر أن حالة الطوارئ تبلغ في خطورتها مستوى كارثة تشيرنوبل في الاتحاد السوفياتي. وفي رأيي أن هذا يبدو مقارنة مبالغاً فيها.

    بعد مرور 25 عاماً على انفجار مرفق تشيرنوبل في أوكرانيا، ما زلت أذكر بصورة قوية كل تفاصيل تلك الأيام الرهيبة من نيسان (أبريل) 1986. كنت في ذلك الحين في السادسة والعشرين من عمري وأعمل مراسلاً أجنبياً في موسكو لوكالة أنباء رويترز. وفي 25 نيسان (أبريل) ذهبت بالطائرة إلى مدينة كييف لقضاء يومين في تلك الربوع. وكنتُ الصحافي الأجنبي الوحيد في كييف في عطلة نهاية الأسبوع تلك.


    وبينما جمعني لقاء مع بعض الأصدقاء خلال الليل، كانت هناك أحداث غير عادية تجري على مسافة 130 كيلو متراً إلى الشمال. فقد كان الفنيون يجرون تجارب تشتمل على تعطيل آليات الإغلاق الآلي في المفاعل الرابع في المعمل. وبعد حدوث اندفاع ضخم في التيار الكهربائي، انفجر المفاعل في الساعة 1:23 من صباح السبت 26 نيسان (أبريل).


    في ذلك الحين لم يكن أحد في الاتحاد السوفياتي، ناهيك عن بقية العالم، يعلم أي شيء عما حدث، باستثناء كبار المسؤولين في الحزب الشيوعي، والمخابرات السوفياتية، وعدد من العلماء والأطباء وعمال الإطفاء. فالعادات الشيوعية في السرية والخداع أبقت ملايين الناس في الظلام حتى في الوقت الذي كان فيه الإشعاع ينتشر عبر أوكرانيا وروسيا البيضاء وروسيا وما وراءها.


    وفي غمرة من الجهل الحميد، أمضيت يوم السبت والأحد متجولا في كييف، تحت أشعة الشمس الربيعية الدافئة. بالمعايير السوفياتية كانت كييف مدينة خضراء بهيجة مرِحة، مليئة بالمتنزهات والتلال الممتدة، التي هي مغطاة الآن بصورة واضحة بالإشعاع.


    وفي يوم الإثنين، 28 نيسان (أبريل) عدت إلى موسكو. ولم أكد أدخل مكتب ''رويترز'' الذي يقع على مسافة قصيرة من الكرملين، حتى سألني أحد الزملاء إن كنتُ قد لاحظت ''أي أمر غريب يجري'' في كييف. وأجبت بالنفي. كانت الشوارع هادئة، وكان الوضع في المطار طبيعياً. وقال صديقي: ''لكن السفارة السويدية اتصلت وسألت إن كانت لدينا أية معلومات حول حدوث كارثة نووية في أوكرانيا''.


    خلال ساعات أخذت الحقيقة بالظهور. فقد أبلغت السلطات في فنلندا والسويد عن تيار من السحب المشعة باتجاه إسكندنافيا. وعم القلق العالم. لكن السلطات السوفياتية ظلت مع ذلك محتفظة بصمتها، حتى بعد 68 ساعة عقب الحادث، حين نشرت وكالة أنباء تاس الرسمية تقريراً قصيراً مغمغماً يشير إلى وقوع حادث في تشيرنوبل.


    بعد ذلك أصدرت ''تاس''، كعادتها التي درجت عليها في تقديم معلومات دعائية وليس حقائق، تقريراً ثانياً زعمت فيه أن الولايات المتحدة شهدت 2300 حادث وعطل نووي في عام 1979 وحده. كان النفاق والخداع المتعمد هما السمة السوفياتية مثل الخبز الناشف.


    وبلغت الدراما الشخصية عندي ذروتها حين فحصني مسؤول في السفارة الأمريكية للبحث عن تسمم إشعاعي. كانت البيانات عن جسمي طبيعية، لكن حين انتقل عداد جايجر فوق البنطلون الذي كنت أرتديه عند محطة الترام في كييف، أصدر الجهاز أصواتا متواصلة من الصرخات الحادة. وقال الدبلوماسي الأمريكي: ''حسناً يا سيد باربر. سنحرق هذا البنطلون''.


    والآن بعد مرور ربع قرن على ذلك الحادث، أعتقد أن أهم درس من تشيرنوبل هو أن الأنظمة السياسية القمعية والكتومة تخذل شعوبها على نطاق هائل. إن الديمقراطيات تخطئ، لكن أنظمة الطغيان المعزولة والمتشككة حتى في مواطنيها، لا تعطي قيمة لحقوق الإنسان ولا للأفراد. ونتيجة لذلك تفتقر في أغلبية الأحيان، وبصورة مؤلمة، إلى ثقافة السلامة المتوقعة في مجتمع صناعي طبيعي. ويرجح لها أن تتصرف بطريقة تتسم بعدم المسؤولية في حالة الأزمة.


    لم تغب هذه النقطة عن ميخائيل جورباتشيف، الزعيم السوفياتي الإصلاحي. فقد استغل الطريقة الرديئة التي أدير بها الحادث حجة للتخلي عن عقود من التكتم واستبدل بها سياسة الانفتاح. لكن العادات القديمة لا تختفي بسهولة. ففي ظل فلاديمير بوتين، رئيس الوزراء الحالي ورئيس الجمهورية السابق، لم تكن السلطات السوفياتية صريحة فيما يخص الأحداث التي من قبيل غرق الغواصة كورسك عام 2000 وحوادث أخرى.


    هناك درس ثان، وهو أنه لا بد من إكراه الصناعة النووية على الالتزام بأقصى معايير التصميم والصيانة. فقد كان السبب في حادثة تشيرنوبل هو وجود خلل في تصميم المفاعل وعدم التدريب المناسب للعاملين. بالمثل، أدت القوانين التنظيمية غير السليمة إلى السماح باستمرار خدمة المفاعلات القديمة من قبيل معمل فوكوشيما.


    وفقاً للسلطات في روسيا البيضاء وروسيا وأوكرانيا، الخسائر الاقتصادية التي تعزى إلى تشيرنوبل تصل إلى مئات المليارات من الدولارات. وفي حين أن هذه الأرقام ربما تكون مبالغاً فيها، إلا أنه لا شك أن تكلفة المحافظة على المعامل النووية في حالة مأمونة أقل بكثير من تكلفة إزالة الآثار المترتبة على الكوارث التي من قبيل تشيرنوبل.


    الدرس الأخير هو أن البشرية تفتقر إلى الكمال. فالغريزة الإنسانية لاكتساب المعرفة والدخول في مناطق ومجالات مجهولة هي أمر يتسم بالنبل وبالخطورة في آن معا. ولو أن فريق تشيرنوبل لم يقم بإجراء تجاربه المتهورة، فمن الممكن ألا يكون قد وقع الحادث، ولما كنت أحلم حتى الآن بالبنطلون الذي تشتعل فيه النيران.
يعمل...
X