المعجزة اليابانية لم تصل إلى نهايتها

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • المعجزة اليابانية لم تصل إلى نهايتها

    بالنسبة لي أكثر الصور القوية التي ستبقى في الذاكرة عن الزلزال والموجة المَدِّيَّة (ومعناها سونامي باليابانية) التي ضربت اليابان، هي القوى التدميرية الهائلة للطبيعة. هذه القوى تخطف الأنفاس بالتأكيد من حيث نطاقها ومقدار الدمار والرعب الذي تخلفه. ستبقى في أذهان كثير من الناس ولفترة طويلة صورة الموجة التي بلغ ارتفاعها عشرة أمتار، والتي تندفع مثل وحش هائج يلتهم السواحل، بما عليها من سيارات وقوارب وحتى مساكن بأكملها، وبعضها يقع فريسة لنيران تُقذَف في قوة عجيبة في الوحل والطين. ولن تمحى من الذاكرة صورة بلدة ريكوزِنتاكاتا الساحلية التي نراها في الأعقاب الصامتة للطوفان، حيث تمزقت مساكنها الخشبية إلى ما يشبه أعواد الكبريت الخشنة، التي أصبحت مقبرة للغرقى.
    لكن أقوى صورتين تظلان في خيالي فترة طويلة هما على نطاق أصغر من ذلك بكثير. الأولى هي صورة أحد محلات السوبر ماركت التي علِقت لحظة انطلاق القوة التدميرية للزلزال البالغة تسع درجات. في الوقت الذي بدأت فيه الرفوف المرتبة ترتيباً أنيقاً بالتحرك والتقلب جيئة وذهاباً، لم يندفع الموظفون للهرب والاختباء من الزلزال. وإنما حاولوا، وإن ذهبت جهودهم هباء، منع زجاجات صلصة الصويا وأكياس المعكرونة من الوقوع إلى الأرض. إن همتهم ونشاطهم عبارة عن تذكرة بالأعمال القائمة على الإخلاص الهادئ الذي نراه يومياً في الأوقات غير العصيبة. الصورة الثانية ـــ التي التقطها مصور لهيئة الإذاعة البريطانية ''بي بي سي'' ـــ كانت أقوى الصور على الإطلاق. نرى في الصورة امرأة شابة، بلغ من ذهولها بما حولها أنها بدت كالعمياء، تبحلق في حقل مليء بالحطام والأغصان الساقطة إلى الأرض، تلفها الحيرة والذهول. كانت ترتدي بنطلوناً مخصصاً لركوب الخيل، لأنها كانت قبل فترة قصيرة تمتطي ظهر حصانها في جولة من القفزات الخفيفة المرحة. اختفى الحصان. واختفت معه كذلك جميع السمات المألوفة لساحة تحولت وتغيرت بصورة تامة وغير مفهومة بحيث لا تعود تعرفها. وتقول، وكأنما تحدث نفسها: ''الأشياء التي كان يُفترَض أن تكون هنا لم تعد هنا''.حين هبطت بي الطائرة هذا الأسبوع في طوكيو، وهي مدينة أعرفها حق المعرفة، شعرت كذلك بنوع خفيف من الذهول والحيرة. حتى في العاصمة التي هي بعيدة عن مركز الزلزال وبعيدة عن القبضة المخيفة للطوفان، تقدم اليابان نفسها للزائر بصورة وكأنها في مرآة مشوهة. مشوار السيارة من مطار هانيدا في طوكيو لم يستغرق أكثر من 20 دقيقة، أي أسرع بثلاث مرات من المعدل العادي. لم تكن هناك تقريباً أية سيارات على الطريق، نتيجة لنقص البنزين، كما قال لي السائق. وأضاف أن هذا هو السبب كذلك في أن السماء في هذا اليوم الربيعي المشرق والمنعش، كانت تظهر في مِسحة رائعة من اللون الأزرق. كانت الشوارع في وسط طوكيو شبه مهجورة. وكانت الرفوف في المحلات شبه خالية. أما المكاتب فكانت خاوية مثل مدن تسكنها الأشباح. وكانت كل رحلة تصعد فيها داخل أحد المصاعد، حيث يكون الراكب رهينة لانقطاع الكهرباء والهزات الزلزالية اللاحقة، فعلاً صغيراً من أفعال الشجاعة.

    داخل المبنى الحكومي الذي يضم وزارة الاقتصاد والسياسة المالية العامة، كانت الأنوار خافتة، حتى لا تصرف كثيرا من الكهرباء. وكان هناك اثنان من موظفي الاستقبال يجلسان في الظلام، في بهو يفتقر إلى التدفئة، يضع كل منهما بطانية على ركبتيه. حتى الوزير كاوورو يوسانو، الذي يبلغ من العمر 72 عاماً، لم يكن بملابسه العادية. فقد كان يرتدي بذلة عملية عبارة عن أوفرهول باللون الأزرق، وحذاء مطاطياً مرتفعاً. وكان ذلك إقراراً من الحكومة بأسوأ أزمة تمر بها اليابان منذ الحرب العالمية الثانية. وحين سئل الوزير إن كانت هذه اللحظة من اليأس تستطيع حشد وتحفيز الأمة، لوّح الوزير بقبضته علامة على التحدي. في 1945 (بعد إلقاء القنبلتين الذريتين وبعد خروج الإمبراطور هيروهيتو على المذياع ليطلب من المواطنين اليابانيين أن ''يتحملوا ما لا يمكن تحمله'') لم تكن الوجوه الرصينة الصارمة للمسؤولين تبدو أكثر صرامة بكثير مما هي عليه الحال الآن. يوم الأربعاء سجل ابن هيروهيتو، وهو الإمبراطور أكهيتو، ظهوراً نادراً على التلفزيون ليطلب من مواطنيه العمل معاً ''للتغلب على هذه الأوقات العصيبة''. هناك غطاء كئيب كالكَفَن يمتد فوق المدينة. يُبقي الناس بعض انتباههم على شاشات التلفزيون، وهم يشاهدون آخر الأنباء عن قضبان اليورانيوم المنصهرة في المعمل النووي في فوكوشيما الذي يبدو أنه قابل للانفجار. إنهم يشعرون بالتوتر حول الإشعاع، وحول الصدمة الزلزالية المقبلة، وسيشعرون بنوع من التوتر كذلك ما إذا كانت القطارات ستواصل عملها لتنقلهم إلى مساكنهم في ضواحي طوكيو البعيدة.

    مع ذلك، في وسط هذه الغرابة تظل طوكيو مألوفة على نحو يدعو للاطمئنان. فلا يزال سائقو التاكسي ينحنون للزائر. ولا تزال الأجزاء الداخلية من سياراتهم مزينة بالشرائط البيض. ولا تزال مقاعد الحمامات اليابانية دافئة (وهو مظهر من مظاهر الحياة الفاخرة التي لا تستطيع الاستغناء عنها)، ولا يزال أصحاب المحلات يتراكضون لخدمة زبائنهم. يرسم لي الأصدقاء حكايات صغيرة عن الأيام القليلة الماضية. في اليوم الذي وقع فيه الزلزال نام مئات الآلاف في مكاتبهم، وسار الملايين من الناس إلى مساكنهم عدة كيلومترات وكأنهم قافلة من النمل. ومنذ يوم الاثنين بذل كثير منهم جهده للعودة إلى عمله على الرغم من العدد المحدود من رحلات القطارات. ورغم أن بعض الرفوف في المحلات خلَت مما كان عليها من أوراق الحمام والبطاريات وأكياس فول الصويا الغنية بالبروتين (وهي عبارة عن استعدادات لحالات انقطاع التيار الكهربائي أو الزلزال المقبل)، إلا أن الناس اقتصروا في الرفوف الأخرى على شراء كيس واحد من شرائح الخبز ولتر واحد من الحليب لكل شخص.
    بالنسبة لأي شخص يعرف اليابان ويرى العاملين في المصانع أو الحرفيين في أعمالهم وفي دقتهم البالغة، فإن هذه حكايات تثلج الصدر. إن اليابان بلد لا يتمتع بكثير من الموارد الطبيعية خلاف أهله. هؤلاء هم الناس الذين خلقوا المعجزة اليابانية والذين يواصلون نوعاً آخر من المعجزة اليابانية، حتى في الوقت الذي أخذ العالم يشعر فيه بالملل وخيبة الأمل من اقتصادها الراكد.حتى في هذا الوقت وأنا أكتب هذه الكلمات، أشعر بالفندق وهو يهتز بفعل صدمة زلزالية أخرى. هذه أوقات عصيبة ومخيفة، لكنني سأذكر أمراً ذكرني به هذا الأسبوع صديقي المتقاعد شيجورو أوجاتا، الذي أعرفه منذ زمن طويل. فقد أخبرني بعبارة يابانية يمكن ترجمتها ترجمة غير بلاغية على النحو التالي: ''حقق أفضل ما تستطيع من صفقة رديئة''. حين تقول ذلك باللغة اليابانية فإن معناها سيبدو أقرب إلى النحو التالي: ''اثنِ سوء الحظ وحوِّلْه إلى سعادة''. إن أوجاتا يرجو أن تتمكن اليابان من تحقيق هذا الأمر بالضبط.




يعمل...
X