الـمـزاح فـي السـنـة «ضوابط وأهداف»

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الـمـزاح فـي السـنـة «ضوابط وأهداف»

    المزاح سلوك اجتماعي يرتبط بالإنسان دون غيره من المخلوقات فهو أحد وسائل المعاشرة بين

    بني الإنسان, وهو أحد الأسباب لطرد السّأم والملل وتطييب الخواطر والمجالس, بل هو منهج

    تربوي هادف.


    ولما كان بهذه المثابة أحببنا أن نفيد قرَّاء مجلَّتنا الغرَّاء ببعض ما يتعلَّق بهذا السُّلوك في شرعنا

    المطهَّر, علَّنا أن نصحح بعض المفاهيم أو نصوِّب بعض الأخطاء الَّتي قد تحوم حول هذا المقصد

    الاجتماعي النَّبيل، فإلى ذلك في النِّقاط التَّالية.


    أوَّلاً ـ تعريف المزاح:


    المزاح في اللُّغة : الدّعابة , وقال في «المحكم»: «المزاح نقيض الجدّ».


    وضبط لفظ المزاح بكسر الميم على أنَّه مصدر للفعل الرُّباعي مازحه للمشاركة بين اثنين، كما

    ضبط بضمِّ الميم على أنَّه مصدر للفعل الثُّلاثي مزح من طرف واحد.


    يقال في الفعل الأوَّل: مازحه مزاحًا وممازحة, وكلاهما مصدر لهذا الفعل مازحه.


    ويقال في الفعل الثاني: مزح مزاحًا ومزاحة بضمِّ الميم فيهما, وكلاهما اسم مصدر لهذا الفعل

    مزح، أما المصدر فالمزح.


    أمَّا اصطلاحًا: فعرَّفه بعض أهل العلم بأنَّه: المباسطة إلى الغير على جهة التَّلطُّف والاستعطاف

    دون أذيَّة.


    ثانيا ـ حكمه:


    المزاح في الأصل مباح, إن سلم من محرَّم, لفعل النَّبيِّ ﷺ له.


    قال العزُّ بنُ عبد السَّلام رحمه الله: «فإنْ قيل: فما تقولون في المزاح؟ قلنا : إنَّما يجوز المزاح لما

    فيه من الاسترواح، إمَّا للمازح أو للممزوح معه، وإمَّا لهما» .


    وبمثل ذلك قال النووي رحمه الله في «أذكاره» (ص581) حيث قرَّر أنَّ ما كان منه لمصلحة

    وتطييب نفسِ المخاطب ومؤانسته فهذا لا مانع منه قطعًا, بل هو سنَّة مستحبَّة إذا كان بهذه

    الصِّفة.


    والأصل في ذلك:


    1 ـ ما روى الترمذي في «سننه» (1913), وفي «الشَّمائل» (238)، وقال: «حديث حسن

    صحيح», عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالوا يا رسول الله ﷺ إنَّك تداعبنا، قال: «نَعَمْ غَيْرَ

    أَنِّي لاَ أَقُولُ إِلاَّ حَقًّا.


    2 ـ وما روى أحمد (13817), وأبو داود (4998), والتِّرمذي (1991) وقال: «حسن غريب» عن أنسر

    رضي الله عنه أنَّ رجلاً استحمل رسول الله ﷺ فقال: «إِنِّي حَامِلُكَ عَلَى وَلَدِ النَّاقَةِ»، فقال: يا

    رسول الله ما أصنع بولد النَّاقة؟ فقال ﷺ: «وَهَلْ تَلِدُ الإِبِلَ إِلاَّ النُّوقُ» وإسناده صحيح على شرط

    الشَّيخين، انظر: «مختصر الشمائل» للألباني (203).


    3 ـ وما روى الشيخان: البخاري (5774), ومسلم (4003), والتِّرمذي (305) عن أنس رضي الله

    عنه قال: إن كان رسول الله ليخالطنا حتَّى يقول لأخ لي صغير: «يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ».


    النُّغير: بضمِّ النُّون تصغير النُّغَر, بضمِّ النُّون وفتح الغين المعجمة, وهو طائر صغير.


    فهذه الأحاديث من قوله ﷺ وغيرها من فعله كثير تدلُّ على جواز المزاح كما نصَّ على ذلك أهل

    العلم, بل قد يرتقي الأمر إلى درجة النَّدب والاستحباب, إن كان ذلك لمصلحة من تطييب نفس أو

    إيناس مخاطَب, كما أشار إليه النَّووي رحمه الله في النَّقل عنه سابقًا في «أذكاره».


    قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «...والذي يسلم من ذلك هو المباح, فإن صادف مصلحة مثل

    تطييب نفس المخاطب ومؤانسته فهو مستحبٌّ» .


    وقال الغزي الشَّافعي رحمه الله: «سئلت قديمًا عن المزاح وما يكون منه وما يباح, فأجبت: بأنَّه

    مندوب إليه بين الإخوان والأصدقاء والخلاَّن, لما فيه من ترويح القلوب, والاستئناس المطلوب,

    بشرط أن لا يكون فيه قذف ولا غيبة, ولا انهماك يسقط الحشمة» .


    وجاء في «الموسوعة الكويتية» (36/ 273): أنَّ «المداعبة لا تنافي الكمال؛ بل هي من توابعه

    ومتمِّماته إذا كانت جارية على القانون الشَّرعي، بأن تكون على وفق الصدق، وبقصد تأليف

    قلوب الضُّعفاء وجبرهم، وإدخال السُّرور عليهم والرِّفق بهم...، ومزاحه ﷺ سالم من جميع هذه

    الأمور، يقع على جهة النُّدرة لمصلحة تامَّة، من مؤانسة بعض أصحابه، فهو بهذا القصد سنَّة، إذ

    الأصل من أفعاله ﷺ وجوب التَّأسِّي به فيها أو ندبه إلاَّ لدليل يمنع من ذلك, ولا دليل هنا يمنع

    منه، فتعيَّن النَّدب كما هو مقتضى كلام الفقهاء والأصوليِّين».


    فتبيَّن من خلال هذا النَّقل عن أهل العلم أنَّ المزاح في الأصل مباح, وقد يندب إليه إن كان

    لمؤانسة أو ترويح قلب «لا سيما إن لاحظ المرء وحشة أو غمًّا أو همًّا, أو كآبة أو حزنًا في نفس

    المخاطَب».


    يشهد لذلك ما رواه البيهقي في «سننه» (10/ 248), واللَّفظ له: (باب المزاح لا تردُّ به الشَّهادة),

    وابن سعد في «الطَّبقات» (3 /506) عن أنس قال: كان ابن لأم سليم يقال له أبو عمير كان

    النَّبيُّ ﷺ ربَّما يمازحه إذا جاء، فدخل يومًا يمازحه فوجده حزينًا، فقال: «مَا لِي أَرَى أَبَا عُمَيْرٍ

    حَزِينًا؟»، فقالوا: يا رسول الله مات نغيره الَّذي كان يلعب به، فجعل يناديه: «يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ

    النُّغَيرُ».


    فتصرُّف النَّبيِّ ﷺ هنا إنَّما كان من باب التَّخفيف من حزن الصَّبيِّ حيث إنَّه كان له طائر فمات,

    فأراد أن يمازحه فسأله: يا أبا عمير ما فعل النُّغير؟


    ثالثًا ـ الحكمة من شرعيَّته:


    ممَّا سبق يتجلَّى لنا بوضوح أنَّ الحكمة من شرعيَّة المزاح هي: مؤانسة الإخوان وتطييب

    النُّفوس؛ لأنَّ المزاح ما أبيح إلاَّ لما فيه من الاسترواح إمَّا للمازح أو الممزوح معه وإمَّا لهما, كما

    سبق من كلام العزِّ بن عبد السَّلام رحمه الله.


    ولذا قيل: «العاقل يتوخَّى بمزاحه أحد حالين لا ثالث لهما: أحدهما: إيناس المصاحبين والتودُّد

    إلى المخالطين، وثانيهما: أن ينفي بالمزاح ما طرأ عليه وحدث به من الهمِّ».


    لكن هذا الَّذي سبق بيانه من الجواز أو النَّدب حتَّى يؤدِّي مقصوده الشَّرعي ينبغي أن يتقيَّد

    بالضَّوابط الشَّرعية والأهداف السَّامية للمزاح حتَّى لا يخرج عن قيد الشَّرعية إلى المزاح المذموم

    كما سيأتي بيانه.


    فإليك ـ أخي القارئ ـ ضوابط وأهداف المزاح المحمود شرعا في النّقاط التَّالية:


    رابعًا: ضوابط المزاح المشروع:


    1 ـ تحرِّي الصِّدق والبعد عن الكذب، والأصل في ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه قالوا: يا

    رسول الله إنَّك تداعبنا, قال: «نَعَمْ غَيْرَ أَنِّي لاَ أَقُولُ إِلاَّ حَقًّا».


    وما روى المبارك بن فضالة عن الحسن ـ أي: البصري ـ قال: أَتَتْ عجوزٌ إلى النَّبيِّ ﷺ فقالت: يا

    رسول الله! ادع الله أن يدخلني الجنَّة، فقال: «يَا أُمَّ فُلاَنٍ إِنَّ الجَنَّةَ لاَ تَدْخُلُهَا عَجُوزٌ»، قال: فولَّت

    تبكي، فقال: «أَخْبِرُوهَا أَنَّهَا لاَ تَدْخُلُهَا وَهِيَ عَجُوزٌ», إنَّ الله تعالى يقول: ﴿إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء *

    فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا﴾[الواقعة:35-37] .


    2 ـ أن يكون على الاقتصاد, فلا إفراط فيه ولا مداومة.


    قال الرَّاغب الأصفهاني رحمه الله: «المزاح إن كان على الاقتصاد فهو المحمود كما رُوي عنه عليه

    السلام: «إنِّي لأمزح ولا أقول إلاَّ حقًّا» اهـ.


    فالإفراط فيه: يورث كثرة الضَّحك والضَّغينة في بعض الأحوال, ويسقط المهابة والوقار, ويشغل عن

    ذكر الله تعالى والفكر في مهمَّات الدِّين.


    وأمَّا المداومة عليه: فإنَّها اشتغال باللَّعب واللَّهو.


    قال المرتضي الزّبيدي رحمه الله: «وقد قال الأئمَّة: الإكثار منه, والخروج عن الحدِّ مخلٌّ بالمروءة

    والوقار؛ والتنزُّه عنه بالمرَّة والتَّقَبُّض مخلٌّ بالسُّنَّة والسِّيرة النَّبويَّة المأمور باتِّباعها والاقتداء، وخير

    الأمور أوسطها» اهـ.


    وهنا أمرٌ مهمٌّ يغلط فيه كثير من النَّاس حيث اتَّخذوا المزاح حرفة وصنعة لإضحاك النَّاس بالكذب

    والافتراء, من أمثال أصحاب التَّمثيليَّات ـ الكوميديا ـ والرُّسوم الكاريكاتورية الَّتي ما فتئت تسخر

    حتَّى من بعض الشَّعائر الدِّينية, ناهيك عن الطَّعن في بعض الجهات بالسَّبِّ والقذف والاتِّهام, وما

    ذاك إلاَّ جهلاً بالدِّين وقلَّة في الحياء وسَفَهًا في العقل ـ عياذًا بالله ـ, أو التَّنكيت بفئة من النَّاس أو

    جهة من الجهات ممَّا قد يكون سببًا لإثارة الضَّغائن والأحقاد, وقد توعَّد النَّبيُّ ﷺ من يفعل ذلك

    بالوعيد الشَّديد.


    فعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جدِّه قال: سمعت النَّبيَّ ﷺ يقول: «وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ بِالحَدِيثِ

    لِيُضْحِكَ بِهِ القَوْمَ فَيَكْذِب، وَيْلٌُ لَهُ، وَيْلٌ لَهُ».


    قال في «فيض القدير» (6 /477): «كرَّره ـ أي الدُّعاء بالويل ـ إيذانًا بشدَّة الهلكة، وذلك لأنَّ الكذب

    وحده رأس كلِّ مذموم وجِمَاعُ كلِّ فضيحة، فإذا انضمَّ إليه استجلاب الضَّحك الَّذي يميت القلب

    ويجلب النِّسيان ويورث الرُّعونة كان أقبح القبائح, ومن ثمَّ قال الحكماء: إيراد المضحكات على

    سبيل السّخف نهاية القباحة» اهـ.


    ومن ثَََََمَّ قال أهل العلم: «ومن الغلط العظيم أن يتَّخذ المزاح حرفة يواظب عليه ويفرط فيه ثم

    يتمسَّك بفعل الرَّسول ﷺ وهو كمن يدور نهاره مع الزنوج ينظر إليهم وإلى رقصهم، ويتمسَّك بأنَّ

    رسول الله ﷺ أذن لعائشة رضي الله عنها في النَّظر إلى رقص الزُّنوج في يوم العيد, وهو خطأ,

    فإنَّ «أكثر هذه المطايبات منقولة مع النِّساء والصبيان, وكان ذلك منه ﷺ معالجة لضعف قلوبهم

    من غير ميل إلى هزل» اهـ.


    3 ـ أن لا يكون مجلبة للأحقاد أو محرِّكًا للضغائن، فإن كان كذلك فإنَّه لا ينفكُّ عن تحريم أو كراهة

    عند أهل العلم.


    قيل: «لكلِّ شيء بدء وبدء العداوة المزاح».


    وقيل:


    لا تمزح فإنَّ المزاح جهل وبعض الشَّرِّ بدؤه المزاح


    ولكن هذا ليس على إطلاقه وإن كان هو أحد أسبابه، لذا فمن الآداب المرعيَّة عدم المزح مع من

    لا يقبلونه, فإنَّه سبب للعداوة أو القطيعة, فبعض النَّاس يحمل كلَّ قولٍ أو فعل مَحْمَلَ الجدِّ, أو أنَّهم

    لا يحبُّون مزاح هذا الشَّخص بالذات, فيكون ذلك مؤدِّيًا إلى ما لا يُحمد عقباه فيجتنب، وعليه؛ فلا

    بدَّ من معرفة شخصيَّة المقابَل فلا يمازح السَّفيه ولا الأحمق ولا من لا يعرف.


    4 ـ أن لا يكون مروِّعًا أو مخيفًا للغير، فإن كان كذلك فهو مذموم حرام.


    والأصل في ذلك ما روى عبد الله ابن السَّائب بن يزيد عن أبيه عن جدِّه أنَّه سمع رسول الله ﷺ

    يقول: «لاَ يَأْخُذْ أَحَدُكُمْ مَتَاعَ أَخِيهِ لاَعِبًا وَلاَ جَادًّا».


    جعله «لاعبًا» من جهة أنَّه أخذه بنيَّة ردِّه, و«جادًّا» من جهة أنَّه روَّع أخاه المسلم بفقد متاعه,

    أفاده العزُّ بن عبد السَّلام رحمه الله في «قواعد الأحكام» (2/ 392).


    وما روى عبد الرَّحمن بن أبي ليلى قال: حدَّثنا أصحاب رسول الله ﷺ أنَّهم كانوا يسيرون مع

    رسول الله ﷺ في مسيرٍ فنام رجلٌ منهم، فانطلق بعضهم إلى نبلٍ معه فأخذها، فلمَّا استيقظ

    الرَّجل فزع، فضحك القوم، فقال: «مَا يُضْحِكُكُمْ؟»، فقالوا: لا، إلاَّ أنَّا أخذنا نبل هذا ففزع، فقال

    رسول الله ﷺ: «لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا».


    5 ـ أن يكون بجميلِ القول ومستحسن الفعل، فيجتنب المازح في مزاحه القول القبيح الفاحش,

    والفعل السَّيِّء المخلّ بالأدب مع الأصدقاء والخلاَّن, فإنَّ ذلك مجلبة للنُّفور محرِّك للضَّغائن.


    6 ـ أن يكون أكثره مع من يحتاجون إليه: كالنِّساء والأطفال، وكذلك كان حال النَّبيِّ ﷺ, فإنَّ أكثر

    مطايباته ﷺ كانت مع النِّساء والصِّبيان، وكان ذلك منه ﷺ معالجة لضعفهم من غير ميل إلى

    هزل، كما سبقت الإشارة إليه في الضَّابط الثاني.


    خامسًا ـ أهداف المزاح المشروع:


    المزاح من صور المجاملة الاجتماعية الحقَّة, والمفاكهة الإنسانية المتوارثة، وقد شرع في

    الإسلام لأهداف وغايات سامية منها:


    1 ـ الإسهام في زيادة الرَّوابط الاجتماعية؛ لأنَّ من غايات المزاح المشروع إيناس المصاحبين

    والتودُّد إلى المخالطين, كما سبق من كلام الماوردي رحمه الله.


    2 ـ استجماع النَّشاط وزيادة الاقتدار على متابعة مسؤوليَّات الحياة؛ لأنَّ الإنسان قد تمرُّ به

    لحظات فتور عن العبادة أو ملل من تكاليف الحياة ومشاغلها, ويشعر بحاجة إلى شيء من

    التَّرفيه واللَّهو المباح.


    فمن غاياته نفي ما طرأ من سأم وما حدث من هَمٍّ، وقد قيل: «لابدَّ للمصدور أن ينفث»، فهو

    منهج تربويٌّ يهدف إلى تحقيق نشاطٍ نفسيٍّ يطرد رواسب التَّعب والسّأم.


    مَزح الشعبي رحمه الله يومًا، فقيل له: أتمزح ؟ قال: «إن لم يكن هذا مُتْنا من الغمِّ».


    وقال الخليل بن أحمد رحمه الله: «النَّاس في سجن ما لم يتمازحوا».


    3 ـ تيسير الوصول إلى الآخرين من خلال استلانة قلوبهم لتسهيل انقيادها، ومن ذلك ملاطفته

    ﷺ لأصحابه رجالاً ونساءً وصغارًا.


    4 ـ معالجة ضعف القلوب وجبرها، ولذا كانت أكثر مطايباته ﷺ مع النِّساء والصِّبيان, معالجة

    لضعف قلوبهم.


    5 ـ نشر البسمة على الشفاه وإشاعة الفرح والسُّرور، «وهذه مستلزمات إنسانيَّة لا يخلو منها

    أحد، وقد كان الرَّسول ﷺ يبتسم ويضحك, وكان تبسُّمه أكثر من ضحكه, وكان ينبسط إلى أهله

    وإلى النَّاس ويمازحهم ويدخل الفرح والسَّعادة والسُّرور على نفوسهم».


    6 ـ تهذيب الممازَح وغيره وتقويم سلوكهم، يشهد لذلك ما رواه عبد الله بن بسر المازني رضي

    الله عنه قال: بعثتني أمِّي إلى رسول الله ﷺ بقطف عنب, فأكلت منه قبل أن أبلغه إيَّاه, فلمَّا

    جئت به, أخذ بأذني وقال: «يَا غُدَرُ».


    و«الغَدْر»: ترك الوفاء, وغُدَر أكثر ما يستعمل في الشَّتم فيقال: يا غُدَر.


    وظاهر هذا الحديث: أنَّ النَّبيَّ ﷺ إنَّما أراد ممازحة هذا الطِّفل ومداعبته وملاطفته.


    هذه بعض ضوابط وأهداف المزاح المشروع فمن التزمها كان مزحه مشروعًا, ومن أخلَّ بها أو

    ببعضها فقد جانب الصَّواب ووقع في الخَطَلِ وهو مذموم المزاح, وضابطه: كل ما اشتمل على ما

    يخدش الحياء ويجرح الكرامة ويثير الحفيظة, ومنه:


    1 ـ الاستهزاء بالدِّين أو بأحد شعائره: فإنَّ ذلك من نواقض الإسلام ـ عياذًا بالله ـ قال تعالى: ﴿وَلَئِن

    سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِالله وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُون * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ

    كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾[التوبة:65-66]، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «الاستهزاء بالله

    وآياته ورسوله كفر يكفر به صاحبه بعد إيمانه»، وقال الشَّيخ عبد الرَّحمن بن سعدي رحمه

    الله عند تفسيره لهذه الآية الكريمة ما نصُّه: «...فإنَّ الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفرٌ مخرجٌ من

    الدِّين؛ لأنَّ أصل الدِّين مبنيٌّ على تعظيم الله, وتعظيم دينه ورسوله, والاستهزاء بشيء من ذلك

    مناف لهذا الأصل, ومناقض له أشدَّ المناقضة» اهـ، وفي حكمه الاستهزاء ببعض السُّنن الشَّرعية

    كالاستهزاء باللِّحية أو الحجاب أو بتقصير الثوب أو غيرها من السُّنن، فإنَّ ذلك كلَّه منكرٌ من القول

    أو الفعل وهو فعل من أفعال المنافقين، سلَّمنا الله.


    فجانب الرُّبوبية والرِّسالة والوحي والدِّين, جانب محترم لا يجوز لأحد أن يعبث فيه لا باستهزاء، ولا

    بإضحاك، ولا بسخريَّة، فإنْ فعل فإنَّه كفرٌ؛ لأنَّه يدلُّ على استهانته بالله عزَّ وجلَّ ورسله وكتبه

    وشرعه، وعلى من فعل هذا أن يتوب إلى الله عزَّ وجل ممَّا صنع.


    ومن الأخطاء الَّتي يقع فيها بعض المسلمين في هذا الباب التَّنكيت أو المزح بالغيبيَّات ـ من

    جنَّة, أو نار, أو قبر ـ الَّتي جعلها الرَّبُّ جلَّ وعلا عبرة وموعظة, وترغيبًا وترهيبًا لما أعدَّه لعباده يوم

    الدِّين, فالتَّنكيت بها تزهيد للخلق في المقصود الشَّرعي منها فليحذر ذلك.


    2 ـ الاستهزاء بالنَّاس مع الغَمْزِ واللَّمْزِ لهم، وقد نهى الله عزَّ وجل عن ذلك حيث قال في محكم

    كتابه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَاء مِّن نِّسَاء

    عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ

    الإِيمَانِ﴾[الحُجُرات:11]، قال ابن كثير رحمه الله: «ينهى تعالى عن السُّخريَّة بالنَّاس, وهو

    احتقارهم والاستهزاء بهم, كما ثبت في «الصَّحيح» عن رسول الله ﷺ أنَّه قال: «الكِبْرُ بَطْرُ الحَقِّ

    وَغَمْصُ النَّاسِ» ويروى «وَغَمْطُ النَّاسِ» والمراد من ذلك احتقارهم واستصغارهم، وهذا حرام، فإنَّه

    قد يكون المحتَقَر أعظم قدرًا عند الله وأحبَّ إليه من السَّاخر منه المحتقِر له».


    وبعض ضعاف النُّفوس من أهل الاستهزاء قد يجدون شخصًا يكون لهم سببًا للإضحاك والتَّندُّر ـ

    والعياذ بالله ـ وقد نهى الله عزَّ وجلَّ عن ذلك كما مرَّ, وليعلم أمثال هؤلاء أنَّ «المسلمَ أخُو

    المسْلِمِ لا يظلِمُه ولا يخذُلُه ولا يحْقِرُه, وأنَّ كلَّ المسلِمَ على المسلِمَ حَرَامٌ دمُه, ومالُه, وعرضُه»

    كما رواه مسلم (4650) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.


    3 ـ المزاح الَّذي قد يؤدِّي إلى الإضرار بالممزوح معه، روى البخاري (7072), واللَّفظ له, ومسلم

    (2617) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبيِّ ﷺ: «لاَ يُشِيرُ أَحَدُكُمْ إِلَى أَخِيهِ بِالسِّلاَحِ،

    فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِغُ فِي يَدِهِ، فَيَقَع فِي حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ»، وفي رواية لمسلم (2616):

    «مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ فَإِنَّ المَلاَئِكَةَ تَلْعَنُهُ حَتَّى يَدَعَهُ، وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ».


    قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «فيه النَّهي عمَّا يفضي إلى المحذور، وإنْ لم يكن المحذور

    محقَّقًا سواء كان ذلك في جدٍّ أو هزل».


    وفي قوله: «وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ»: «مبالغة في إيضاح عموم النَّهي في كلِّ أحد سواء من

    يتَّهم فيه ومن لا يتَّهم، وسواء كان هذا هزلاً ولعبًا أو لا؛ لأنَّ ترويع المسلم حرام بكلِّ حال, ولأنَّه

    قد يسبقه السِّلاح كما صرَّح به في الرِّواية الأخرى»، أفاده النَّووي في «شرحه على مسلم»

    (16/ 170).


    وقد سبقت الإشارة إلى حِرمة ترويع المسلم ولو عن طريق المزح كما في الضَّابط.


    فاحذر أيُّها المسلم أن يصدر منك مثل هذا التَّصرُّف المشين فيلحقك ذاك الوعيد العظيم ـ ألا وهو

    الطَّرد من رحمة الله جلَّ وعلا ـ, سلَّمني الله وإيَّاك, وانظر كيف استحقَّ هذا اللَّعن بالإشارة؛ فما

    ظنُّك بالإصابة.


    4 ـ ما اشتمل على كذب أو غِيبَة:


    أمَّا الأوَّل: فقد مضى التَّنبيه على ما ورد فيه من الوعيد في الضَّابط , فليكن ذلك منك على

    ذُكر.


    أمَّا الثاني: فمرض خبيث, وكبيرة من كبائر الذُّنوب, يكفي في قبحه أنَّه أكلٌ للحوم النَّاس بغير

    حقٍّ, روى أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «لمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ

    نُحَاسٍ يَخْمُشُونَ بِهَا وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ, فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلاَءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ

    لُحُومَ النَّاسِ, وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ».


    وقد زيِّن هذا الفعل القبيح لبعض النَّاس فصار يقترفه, ويقع فيه, كلُّ ذلك باسم المزاح ودفع السّأم

    والملل, وما شعر مقترفه أنَّ ذاك من الغِيبَة المحرَّمة الَّتي قال فيها النَّبي ﷺ موضِّحًا ومبيِّنًا

    لحدِّها لما قال: «أتَدْرُونَ مَا الغِيبَةُ؟»، قَالُوا: الله ورسوله أعلم، قال: «الغِيبَةُ ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا

    يَكْرَهُ».


    فالتَّنكيت وإدخال السُّرور على الغير, والانبساط إلى الإخوان لا يكون أبدًا بما حرَّم الله تعالى؛

    فلْيُعْلَم ذلك.


    وختامًا هذه ضوابطُ وأهدافٌ لهذا السُّلوك الاجتماعي النَّبيل, جمعتها ورتَّبتها قدر الجهدِ, علَّ

    قارئها ينتفع بها, رزقنا الله جلَّ وعلا كريم الأخلاق وجميل الفعال, آمين.


    وصلِّ اللَّهمَّ ربِّ على مَنْ بعث متمِّمًا لمكارم الأخلاق, وعلى آله وصحبه وسلِّم تسليمًا




    فتح حساب فوركس اسلامي معنا المميزات و الخطوات

  • #2
    رد: الـمـزاح فـي السـنـة «ضوابط وأهداف»

    بارك الله فيك جهد كبير ..

    تعليق


    • #3
      رد: الـمـزاح فـي السـنـة «ضوابط وأهداف»

      اللهم لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين

      تعليق


      • #4
        رد: الـمـزاح فـي السـنـة «ضوابط وأهداف»

        اللهم صل على محمد وعلى اله وصحبه اجمعين

        تعليق

        يعمل...
        X