تزايد المخاطر والآلام في عصر الأسعار المتصاعدة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • تزايد المخاطر والآلام في عصر الأسعار المتصاعدة

    الارتفاع المتواصل في أسعار السلع سمة جديدة ملازمة للمشهد الاقتصادي العالمي الجديد، وهو علامة على التحول العالمي في القوة الاقتصادية من الغرب إلى الشرق. وقد آن الأوان لأن نعتاد على ذلك.

    الارتفاعات الأخيرة في الأسعار كانت غير عادية إلى درجة أن روبرت زوليك، رئيس البنك الدولي، يحذر من ''هَبَّة سامة من الألم الحقيقي''. وكان في معظم حديثه يقصد الأشخاص الذين يعانون من الفقر. لكن لأن أسعار المواد الغذائية ارتفعت بمقدار الضعف منذ عام 2000، ولأن أسعار النفط والمعادن تضاعفت ثلاث أو أربع مرات، فليس هناك شخص محصن ضد الألم.


    هذه ليست فقط حكاية حول السياسة النقدية المتراخية في الولايات المتحدة، أو صعود شركات السلع الكبرى، مثل جلينكور Glencore. (شركة سويسرية خاصة يملكها العاملون، بلغت إيراداتها لعام 2010 نحو 145 مليار دولار). وإنما نَشهَد الآن تزايد الآلام الناتجة عن نجاح بلدان الأسواق الناشئة. لقد ولت إلى غير رجعة الأيام التي كنا نعتبر فيها أن النمو السريع لبلدان آسيا هو علامة على الطلب القوي من الولايات المتحدة أو أوروبا. فالمستهلكون الصينيون يساهمون الآن تقريباً بقدر مساهمة المستهلكين الأمريكيين في نمو الإنفاق الاستهلاكي العالمي، في حين أن الاستثمار الصيني يتفوق على الاستثمار الأمريكي منذ عام 2001. إن فك الاقتران العالمي (أي أن الاقتصاد في بلدان الأسواق الناشئة أصبح واسعاً وعميقاً إلى درجة أنه لن يتأثر بأية هزات اقتصادية في أوروبا وأمريكا)، الذي كان فيما مضى وهماً وخيالاً، هو الآن الواقع الاقتصادي الجديد.


    لكن رغم كل ما حققته الصين والهند من تقدم، إلا أنهما ما زالتا حتى الآن من البلدان الفقيرة. وهذا أمر مهم، لأن النمو السريع عند مستويات الدخل الدنيا يعتبر مرادفاً للزيادات الكبيرة في الطلب على المواد الخام. وفي هذا المقام نجد أن البنية التحتية القائمة في البلدان المتقدمة يجري بناؤها الآن فقط (في بلدان الأسواق الناشئة)، في حين أن تحَوُّل الناس إلى نظام غذائي قوامه اللحم ومنتجات الألبان يؤدي كذلك إلى ارتفاع الطلب على المنتجات الزراعية.


    بطبيعة الحال ليس من الضروري دائماً أن يقترن ارتفاع الطلب بارتفاع الأسعار. على الأجل القصير على الأقل ينبغي أن يؤدي ارتفاع الأسعار إلى زيادة العرض، وأن يتم استخدام الموارد النادرة بطرق أكثر كفاءة. لكن لا يمكن خلق العرض بمجرد كبسة زر، خصوصاً حين يغلب على الأراضي الزراعية التي كانت في الماضي تُستخدَم للمواد الغذائية أن تُستخدَم الآن للوقود الأحيائي.


    هناك قيود أخرى كذلك. خذ مثلاً حركة المسافرين عن طريق الطائرات. منذ خمسينيات القرن الماضي انخفضت تكلفة كل مسافر بالأميال بنسبة 75 في المائة. لكن تضاعفت أعداد المسافرين سبع مرات، وحدث ارتفاع عجيب في أطوال المسافات التي تقطعها الطائرات. ونجد هنا، كما هو الحال في مجالات أخرى، أن مكاسب الكفاءة لم تكن كافية لتخفيف الضغط على استخدام الموارد النادرة.


    والأنكى من ذلك أن هذه المشكلة، في ظل الظروف السوقية الطبيعية، لن يكون أمامها مجال إلا أن تزداد سوءاً. فالمكاسب السريعة في الإنتاجية في الصين والهند تدفع بالدخول المحلية إلى أعلى، ما يزيد من الطلب الاستهلاكي. كذلك يطرأ الآن تحسن على العلاقة بين أسعار بيع الصادرات وأسعار شراء الواردات بالنسبة لكل من الصين والهند: في المستقبل إما أن ترتفع قيمة الرنمينبي والروبية، أو أن ترتفع الأسعار والأجور المحلية في الصين والهند نسبة إلى الأسعار الخارجية.


    بصرف النظر عن أي الاحتمالين هو الذي سيكون سائداً، سيكون بمقدور الصين والهند شراء مزيد من السلع، ما يضغط على الأسعار إلى أعلى أكثر حتى من ذي قبل. لكن هذا جزءٌ من نمط أرحب، وهو أن جميع البلدان الصناعية بحاجة إلى القدرة على الاستفادة من المواد الخام التي يقوم عليها النمو. من الناحية التاريخية كانت القوى الأوروبية تحل هذه المعضلة من خلال الاستعمار والاستعباد. ولأن هذا المسار ليس متاحاً هذه الأيام، فإن الصين والهند بحاجة إلى خيارات أخرى.


    هذا هو السبب في أن الصين لا تزال منهمكة في التفاوض على صفقات ثنائية مع البلدان الغنية بالسلع، خصوصاً إيران وعدد من البلدان في جنوب الصحراء الإفريقية. وفي الغالب تكون أحكام هذه الصفقات ضبابية، ما يدل على عدم وضوح الحدود بين المصالح التجارية ومصالح الدول في تلك الصفقات. وهي كذلك غالباً ما تكون على مسافة قريبة من الحمائية. وتستخدم بلدان الأسواق الناشئة الأخرى إعانات سخية وضوابط أسعار غاية في التشدد لحماية مواطنيها الأكثر تأثراً بارتفاع الأسعار. ولأن معدلات التضخم الآن عند أعلى مستوياتها منذ ما يزيد على السنتين، فقد لجأت الصين مثلا، في الفترة الأخيرة إلى وضع ضوابط على البنود الاستهلاكية. وربما تجد نفسها خلال فترة قريبة مُكرَهة على السماح بزيادة قيمة عملتها كذلك.


    مع ذلك، من شأن هذه الإجراءات أن تفرض تكاليف أكبر من ذي قبل على البلدان الأخرى؛ فالتكاليف تزداد وضوحاً في أماكن أخرى في العالم. ومع صعود الشرق، فإن الغرب يجد أنه يتحمل جزءاً من الفاتورة، على اعتبار أن ارتفاع أسعار السلع يشكل تهديداً خطيراً لحالات الانتعاش الاقتصادي المتعثرة. ويعمل التضخم الآن على جانبي الأطلسي على اعتصار الدخول الحقيقية، ويهدد بإلقاء اقتصاد البلدان في أحضان الركود مرة أخرى.


    بعد وقوع أكبر انهيار منذ الكساد العظيم، تُنبئنا النظرية الاقتصادية بأنه لا ينبغي أن تكون أسعار السلع العالمية مرتفعة إلى هذا الحد. لكنها كذلك، ويحتاج الغرب بسرعة إلى أن يفتح أعينه على هذا الواقع الاقتصادي الجديد. فأسعار السلع الآن أعلى بصورة دائمة. ونحن ندخل الآن فترة من التقشف ليس فقط بسبب ديون الماضي، وإنما كذلك بسبب التكاليف المرتفعة في الوقت الحاضر.


    وحتى لا نقع في هذا الفخ، لا بد للنمو الغربي في المستقبل أن يعتمد على بناء صلات تجارية جديدة مع بلدان الأسواق الناشئة. وفي الوقت الذي تأخذ فيه بلدان الأسواق الناشئة بالهيمنة على الاقتصاد العالمي، فإنها بحاجة إلى منتجات وخدمات جديدة تناسب تطلعات مواطنيها الذين وضعوا قدماً واحدة فقط على سلم التنمية. وإذا استطاعت البلدان المتقدمة تقديم تلك المنتجات والخدمات، بدلاً من تقديم المنتجات المعقدة والمكلفة التي يجري استهلاكها في العادة، نستطيع نحن كذلك أن نستفيد من نجاح بلدان الأسواق الناشئة.


    ليس كل هذا لعبة يربح فيها طرف على حساب خسارة الطرف الآخر. ذلك أن الاقتصاد العالمي، رغم كل شيء، يتوسع بصورة صحية في الوقت الحاضر. لكنها لعبة يعمل فيها نجاح بلدان الأسواق الناشئة على فرض عبءٍ غير متوقع على التقدم الغربي. والإخفاق في إدراك هذا الواقع الجديد يمكن أن يجعل العالم يهبط في هوة الحمائية، وفي الفوضى المالية والنزاعات التي أحدثت الندوب في النصف الأول من القرن العشرين. حتى نتجنب هذا المصير، فإننا جميعاً بحاجة إلى التوصل إلى حل للكيفية التي سنعيش بها ضمن إمكاناتنا الجديدة والمتواضعة بصورة متزايدة.




    الكاتب كبير الاقتصاديين في HSBC، ومؤلف كتاب Losing Control: The Emerging Threats to Western Prosperity
يعمل...
X