شعراء السلطة.. صحفيون في عصرنا

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • شعراء السلطة.. صحفيون في عصرنا

    شعراء السلطة.. صحفيون في عصرنا [01/09/2007][21:23 مكة المكرمة]
    الشاعر يعضد من سلطة الحاكم
    بقلم: فوزي منصور
    كان للشعر قديمًا دور كبير في حياة الحكام والمحكومين، وكان يشبه إلى حدٍّ كبيرٍ دورَ الصحافة حديثًا، حيث كان الآلة الإعلامية سريعة الانتشار سابقًا قبل ظهور الصحافة والإعلام الحديث، وقد حرص الحكام على تقريب الشعراء منهم وإمدادهم بالعطايا الجزيلة مقابل مدحهم وتثبيت دعائم سلطانهم، حتى وإن كان المدح كذبًا، فلا يهمُّ، المهم هو رسم صورة مثالية للحاكم، حتى يضمن استقراره على سدَّة الحكم، وكم رفع الشاعر من قدر ممدوحه (الأمير أو الحاكم) ووصفه بالكرم وهو البخيل، ووصفه بالعدل وهو الظالم، ووصفه بالمروءة وهو النذل، ووصفه بالشجاعة وهو الجبان، وهكذا كثيرًا ما لعب الشاعر دور البوق الدعائي للسلطة.
    وفي العصر الحديث حلت الصحافة محلَّ الشعر في تمجيد الحاكم ومدحه، وتثبيت دعائم حكمه؛ نظرًا لشيوع الصحف وانتشارها، كما أن عامة الناس لم تعُد تهتم بالشعر، إلا القليل منهم، فنرى الصحفي اليوم يقوم بدور جرير مثلاً أو أبو تمام أو المتنبي في مدح الحاكم، وإضفاء الصفات المثالية التي لا تتوافر فيه عليه، بل قد يبرِّر بطشه وظلمه واستبداده، فيرى ظلمه عدلاً، وبطشه بالمعارضين شجاعةً، واستبداده حكمة.
    وفي هذه الدراسة سنتعرض لبعض النماذج التي غازلت السلطة على مر العصور لتفوز بالمال الوفير أو لتحوز على منصبٍ عظيم، أو لتستطيع أن تقضي مصالحها الشخصية دون أن يعترضها أحد لقربها من الحاكم والسلطان.
    شاعر السلطة في العصر الجاهلي
    كان الشاعر العربي يمثل صوت القبيلة يدافع عنها بشعره، ولهذا كان الشعر ديوان العرب، وقد كان لكل قبيلة شاعر وديوان يخلِّد مآثرها وأمجادها، ولقد لعب الشاعر دورًا كبيرًا في توطيد دعائم سلطة القبيلة، بما يسكبه من شعره في مدح سيدها والثناء على أبطالها؛ ولذا فقد فتح ملوك المناذرة والغساسنة مجالسهم للشعراء، فكأنَّ سلطانهم لا يتحقق إلا إذا ردَّدت الصحراء العربية شجاعتهم ومجدهم وبطولاتهم.. فالشعر هنا يضفي الشرعية على الملك أو الأمير أو القبيلة.. فهو إذْ يمدح الأمير أو الملك يعطيه شرعية البقاء في الحكم ويُبطل حُجَج الأعداء في عدم صلاحية هذا الحاكم أو ذاك بالحكم، حتى إن بعض الشعراء كان يُمجِّد بطش الحاكم وجبروته ويشرعه تثبيتًا للملك ودفاعًا عن هيبة الدولة.
    ومن ذلك قول النابغة الذبياني للنعمان بن المنذر:
    كأنك شمس والملوك كواكب إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
    وفي قصيدة أخرى يقول:
    فتلك تبلغني النعمان، إنَّ له فضلاً على الناس في الأدنى وفي البعد
    ولا أرى فاعلاً في الناس يشبهه ولا أُحاشي من الأقوام من أحد
    شاعر السلطة في العصر الأموي
    الشعراء نجحوا في إرساء دعائم الحكم للأمويين
    وفي العصر الأموي استعان الخلفاء بالشعراء لتوطيد دعائم ملكهم، وكلما تولى خليفة الحكم أقام الشعراء ببابه وجهَّزوا له من قصائد المدح ليمدحوه حتى يحصلوا على المال الوفير، وقد كان في بعض القصائد مبالغات كثيرة؛ فيروي المسعودي في كتابه (مروج الذهب) أن عبد الله بن مازن دخل على يزيد بعد وفاة معاوية وهو ينشد:
    الله أعطاك التي لا فوقها وقد أراد الملحدون عوقها
    عنك فيأبى الله إلا سوقها إليك حتى قلدوك طوقها
    وهناك الكثير من الشعراء الآخرين منهم جرير والأحوص، وعدي بن الرقاع، الذين بالغوا في المدح الكاذب لدرجة أنهم أعلنوا صراحةً أن الأمر في مسألة الخلافة وتعيين الحاكم، يقدره الله، وليس للأمة فيه رأي ولا للناس مشورة.
    ومن ذلك قول جرير لعبد الملك مؤكدًا أن الله حباه الخلافة لأنه أحق بها وأجدر:
    الله طوقك الخلافة والهدى ** والله ليس لما قضى تبديل
    ولي الخلافة والكرامة أهلها ** فالملك أفيح والعطاء جزيل
    وهكذا استعان الحكام بالشعراء لتوطيد دعائم ملكهم وتثبيته، بل وتبرير بطشهم واستبدادهم، وقد أعطوا الشعراء الهدايا النفيسة من بيت المال مقابل هذا المدح الكاذب، لكن الأمر اختلف عندما تولى الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز الخلافة.
    موقف عمر بن عبد العزيز من شعراء السلطة
    لما استخلف عمر بن عبد العزيز وفد الشعراء إليه يريدون أن يمدحوه كما مدحوا من قبله حتى يحصلوا على المال الوفير، فأقاموا ببابه أيامًا لا يؤذن لهم، فبينما هم كذلك وقد أزمعوا على الرحيل إذ مر بهم رجاء بن حيوة- وكان من خطباء أهل الشام- فلما رآه جرير داخلاً على عمر أنشأ يقول:
    يا أيها الرجل المرخي عمامته هذا زمانك فاستأذن لنا عمرا
    قال: فدخل ولم يذكر من أمرهم شيئًا، ثم مرَّ بهم عدي بن أرطأة، فقال له جرير:
    يا أيها الرجل المرخي مطيته هذا زمانك إني قـد مضى زمني
    أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه أنَّي لدى الباب كالمصفود في قرن
    لا تنس حاجتنا لقّيت مغفرة قد طال مكثي عن أهلي وعن وطني
    فدخل عدي على عمر، فقال: يا أمير المؤمنين، الشعراء ببابك وسهامهم مسمومة وأقوالهم نافذة، قال: ويحك يا عدي مالي وللشعراء، قال: أعزَّ الله أمير المؤمنين، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة، قال: كيف؟ قال: امتدحه العباس بن مرداس السلمي فأعطاه حلة قطع بها لسانه، قال: أو تروى من قوله شيئًا؟ قال: نعم، فأنشده يقول:
    رأيتك يا خيـر البريـة كلهـا نشرت كتابًا جاء بالحق معلمًا
    شرعت لنا دين الهدى بعد جورنا عن الحق لما أصبح الحق مظلمًا
    ونـورت بالتبيان أمـرًا مدلسًا وأطفأت بالقـرآن نارًا تضرمًا
    قال: ويحك يا عدي، مَن بالباب منهم، فذكر له أسماء الشعراء، عمر بن عبد الله بن ربيعة، والفرزدق، والأخطل وجرير، فرد الجميع إلا جرير فسمح له بالدخول، فدخل جرير وهو يقول:
    إن الذي بعث النبي محمدًا جعل الخلافة للإمام العادل
    وسع الخلائق عدله ووفاؤه حتى أرعوى فأقام ميل المائل
    إني لأرجو منك خيرًا عاجلاً والنفس مولعة بحب العاجل
    فلما مثل بين يديه قال: ويحك يا جرير ، اتق الله ولا تقل إلا حقًا، نشأ جرير يقول:
    أأذكر الجهد والبلوى التي نزلت أم قـد كفاني بمـا بُلِّغْتَ من خيري
    كم باليمامة مـن شعثاءَ أرملة ومـن يتيم ضعيف الصـوت والنَّظَرِ
    ممن يعدُّكَ تكِفي فقـد والِدِه كالفَرخَ في العـش لم ينهض ولم يطر
    يدعوك دعوة ملهوف كأنَّ به خبلاً مـن الجِنَّ أو مساّ مـن البشر
    خليفة الله مـاذا تأمرون بنـا لسـنا إليكم ولا فـي حـار منتظر
    ما زلت بعدك في هـم يُؤرقني قد طال في الحيِّ إصعادي ومنحدري
    لا ينفـع الحاضر المجهود بادينا ولا يعـود لنـا بـادٍ على حضـر
    إنا لنرجو إذا مـا الغيث أخلفنا مـن الخليفة ما نرجو مـن المطـر
    نـال الخلافة إذ كانت لـه قدرًا كمـا أتى ربَّهُ موسـى على قـدر
    هذي الأرامل قد قضَّيت حاجتها فمـن لحاجة هـذا الأرمل الذكـر
    الخير ما دمـت حيـًا لا يفارقنا بوركت يا عمر الخيرات مـن عمر
    فقال: يا جرير ما أرى لك فيما ها هنا حقًّا، قال: بلى يا أمير المؤمنين أنا ابن سبيل ومنقطع. فأعطاه من صلب ماله مائة درهم... ثم خرج، فقال له الشعراء: ما وراءك؟ قال: ما يسوءكم، خرجت من عند أمير المؤمنين وهو يُعطي الفقراء ويمنع الشعراء وإني عنه لراضٍ، ثم أنشأ يقول:
    رأيت رُقَـي الشيطان لا تستفزه وقـد كان شيطاني من الجن راقيا
    وهذا منهج جديد في عهد الدولة الأموية للتعامل مع الشعراء فقد كان الشعراء يمدحون الملوك والأمراء طلبًا لرفدهم، ويدخلون في قصائدهم المبالغات والكذب إلى أن تولى الخلافة عمر بن عبد العزيز، فقصدوه، فكان موقفه من الشعراء كما تبيَّن من الخبر المذكور، فقطع تلك العادة التي تفسد بنية المجتمع وتشجع على سيادة الأخلاق السيئة من الكذب والتغرير والنفاق، فقطع تلك العادة السيئة ولم تعد إلى الظهور إلا بعد وفاته، ولقد اعترف جرير بأن الشياطين كانوا من وراء الشعراء في استفزاز الأمراء الممدوحين، وأن عمر بن عبد العزيز قد تميَّز بحصانته من أولئك الشياطين(معالم التجديد والإصلاح الراشدي على منهاج النبوة (عهد أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز من الميلاد إلى الخلافة) للدكتور علي محمد الصلابي).
    شاعر السلطة في العصر العباسي
    ويتولى العباسيون السلطة، وكان السفاح هو أول خلفاء بني العباس ومن اسمه نعرف أعماله ومآثره، ولما بويع في الكوفة عام 132هجريًّا، وقف خطيبًا يقول للناس: "استعدوا، فأنا السفاح المبيح والثائر المبير"، وقد انتهت له الأمور بعد أن قتل من بني أمية وجندهم ما لا يحصى ولا يعد.
    ويدخل على السفاح الشاعر سديف بن ميمون، وعنده سليمان بن هشام بن عبد الملك، وقد أكرمه، فقال سديف:
    لا يغرنك ما ترى من رجال ** إن تحت الضلوع داء دويًّا
    فضع السيف وارفع السوط حتى ** لا ترى فوق ظهرها أمويًّا
    فقال سليمان: قتلتني يا شيخ!
    وأخذ السفاح سليمان فقتله.
    وهكذا كان الشعراء سببًا في التنكيل بالمعارضة، حيث يصورون للحاكم أن لهؤلاء خطورةً على حكمهم وسلطانهم، ويقلبون الحقائق ويزيفون الواقع حتى يتوهم الحاكم أن المعارضين له سينقضون على سلطانه فينتزعونه منه فينكل بهم فيسجن من يشاء ويقتل من يشاء؛ حتى لا يجرؤ أحد أن يتكلم بكلمة حق فيتمادى الحاكم في بطشه وغيه.
    ويلعب الشعراء أيضًا دورًا كبيرًا في رفع درجة التقديس إلى التأليه، فلا يجد ابن هانئ الأندلسي بعد ذلك أي حرجٍ في أن يقول للخليفة العباسي الفاطمي المعز لدين الله:
    ما شئت لا ما شاءت الأقدار ** فاحكم فأنت الواحد القهار
    وكأنما أنت النبي محمد ** وكأنما أنصارك الأنصار!
    ويقول أيضًا:
    ندعوك منتقمًا عزيزًا قادرًا ** غفار موبقة الذنوب صفوحًا
    أقسمت لولا أن دعيت خليفة ** لدعيت من بعد المسيح مسيحًا
    والشاعر يعلم في قرارة نفسه أنه كذاب، والحاكم يعلم أيضًا أن الشاعر يكذب، ولكن كل ذلك من أجل القرب من الحاكم والحصول على الأموال الطائلة، فيبيع الشاعر دينه وشرفه وصدقه مقابل الحصول على الدنيا، وهذا الصنف من الشعراء صَدَقَ فيهم قول الحق تبارك وتعالى: ﴿وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ (226) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ (227)﴾ (سورة الشعراء).
    الصحفيون يلعبون دور الشعراء مع الحكام
    وفي العاصر الحاضر نرى بعض الصحفيين يلعبون دور الشعراء مع الحكام من المدح الكاذب وتبرير بطشهم وظلمهم؛ بل يدعون الحاكم إلى البطش بالمعارضة كما كان يفعل الشعراء سابقًا؛ حيث أصبحت الصحافة هي الآلة الإعلامية سريعة الانتشار، فهو لا يرى إلا ما يراه الحاكم، وما يراه الحاكم صوابًا وما عدا ذلك فهو الخطأ.
    وبدلاً من أن يقوم الصحفي بدور الناصح الأمين فيرشد الحاكم إذا أخطأ ويثني عليه إذا أصاب، ويقوم بتوعية الشعب، ويفضح الفساد الموجود في مؤسسات الدولة إذا به يتخلى عن دوره ويقوم بدور الشاعر الكاذب المنافق للسلطة مقابل مغنمٍ عاجلٍ من دنيا حقيرة، ويبيع شرف مهنته مقابل الحصول على الأموال والمنصب والفوز بالقرب من جلالة السلطان.
    وهذه الفئة من الصحفيين لا تعلم أنها بذلك تساعد على انتشار الفساد في المجتمع، وتضر بالحاكم والمحكومين، تضر بالحاكم لأنها تجعله لا يفيق من غيه ويزيد من بطشه وظلمه، ويظن أنه بذلك يصلح ولا يفسد، وتضر بالمحكومين؛ لأنها تحرمهم من حقوقهم المشروعة وتجعلهم يعشون تحت سيف القهر والظلم ويقعون فريسةً لحكامهم.
    ألا يفيق هؤلاء الصحفيون ويرجعون إلى رشدهم ولا يقولون إلا حقًّا، كما قال عمر بن عبد العزيز لجرير عندما مدحه: "اتق الله ولا تقل إلا حقًّا".
    وفي الختام نحب أن ننوه أنه كان يوجد على مر العصور بعض الشعراء الصادقين الذين لم يجاروا الحكام بل وقفوا لظلمهم وكشفوا فساد حكمهم، وبعضهم تعرَّض للسجن أو النفي أو القتل لثباته على المبدأ، وكذلك أيضًا يوجد بعض الصحفيين الذين يقولون كلمة الحق ولا يخافون في الله لومة لائم؛ لكن دراستنا انصبَّت على الفئة التي غازلت السلطة على مر العصور، وقد اكتفينا بذكر بعض الشواهد للتدليل فقط، أما الأمثلة فهي أكثر من أن تحصى، ولمن يرد المزيد يرجع إلى كتب الشعر، وخاصة شعر المدح، وسيرى أن التاريخ يُعيد نفسه
يعمل...
X